
الـ 21 من سبتمبر ثورة عطاء تبني الإنسان قبل أن تبني الدولة
الإعلام التعاوني الزراعي – م. محمد عبده عباس:
لم تكن الحادي والعشرون من سبتمبر 2014 مجرّد لحظة سياسية عابرة، ولا مجرد تحوّل في موازين القوى، بل كانت بداية لثورة من نوع آخر: ثورة في الوعي، في الإنتاج، في الإيمان بقدرات الإنسان اليمني. إنها ثورة أعادت تعريف مفهوم السيادة، لا بوصفها شعاراً سياسياً، بل باعتبارها مشروعاً تنموياً قائماً على الاعتماد على الذات، وترسيخ الكرامة الاقتصادية، والانعتاق من الارتهان الخارجي.
كما لم تكن مجرد صرخة سياسية في وجه الفساد والتبعية، بل كانت ولادة جديدة لليمن في وجدان شعبه، لقد جاءت لتعيد للإنسان اليمني ثقته بنفسه، ولتضعه في قلب مشروع وطني يقوم على الكرامة والسيادة والتنمية المستقلة، بعد سنوات طويلة من الارتهان للخارج، بالقروض المشروطة والمنح المقرونة بالوصاية.
ولأن الإنسان هو جوهر التنمية، فقد جاءت هذه الثورة لتبني الإنسان قبل أن تؤسّس لمؤسسات الدولة، ولتضعه في قلب معادلة التغيير، لا على الهامش كما كان لعقود. ففي زمنٍ كانت التنمية مرهونة بإملاءات الخارج، والمشاريع مرهونة بالقروض المشروطة، كانت الأرض تُزرع ولا يُعرف مصير المحصول، وكان الشباب يُقصون من دوائر الفعل، والمرأة تُهمّش رغم عطائها.
ومع إشراقة فجر 21 سبتمبر، تبدّل هذا المشهد، عاد الاعتبار للفلاح الذي يزرع كما لو أنه يخطّ على وجه الأرض سطوراً في كتاب الحرية، لم تعد المجرفة رمزاً للفقر، بل أصبحت أداة للتحرر، لم يكن القمح الذي يُزرع في الحقول مجرد محصول، بل بيان سيادي يُكتب على سنابل الأرض.
ففي القرى والوديان ارتفع صوت الأرض من جديد، فعاد الفلاح إلى حقله وهو يضع البذور في التراب كما لو كان يزرع حلماً جديداً، يدرك أن القمح الذي يزرعه ليس مجرد غذاء، بل رمز للسيادة ودرس في الحرية، فبين يديه مجرفة بسيطة لكنها تحمل في معناها ثورة كاملة، إذ لم يعد الخبز المستورد سيد المائدة، بل صار رغيفاً من عرق جبينه.
وفي القرى، كما في المدن، تحوّلت الثورة إلى سلوك يومي، الفلاح يزرع، والطفل يسقي، والمرأة تخبز من نتاج حقلهما، حلقة مكتملة من الاكتفاء الذاتي، مشهد بسيط، لكنه عميق الدلالة: تنمية تبدأ من البيت، وتُبنى بالإرادة.
أما في المدن، فارتسم وجه آخر لثورة 21 سبتمبر، شباب لم يعودوا أسرى الانتظار ولا ضحايا الواقع، وجدوا في الثورة فرصة ليكونوا رواداً للتنمية، لا متلقّين للمعونة، مشاريع صغيرة تنبت في الأزقة: معامل إنتاج، ورش صيانة، منظومات طاقة شمسية، ومبادرات شبابية تتحدى العجز وتخلق حلولاً من رحم الحاجة.
المرأة، التي طالما أُقصيت عن دائرة القرار الاقتصادي، أصبحت اليوم شريكاً كاملاً في البناء، تدير مشاريعها، تسوّق منتجها، وتعيل أسرتها بكرامة، لم تعد فقط “مسانِدة للرجل”، بل صارت فاعلاً اقتصادياً مستقلاً، تثبت أن التنمية لا تكتمل دون طاقتها وإبداعها.
وفي قلب هذا التحوّل، يقف الطالب اليمني، الذي لم يعد يرى في التعليم وسيلة للوظيفة فقط، بل أداة لبناء الوطن، يحلم أن يكون مهندساً أو مزارعاً أو مخترعاً، لا ليغادر وطنه، بل ليبنيه.
ورغم الحرب والحصار، فإن هذه الثورة لم تتراجع، بل تقدّمت، الحصار الذي أراد أن يخنق الحياة، أيقظ إرادة البقاء، القمح المستورد غاب، لكن الحقول نشطت، الكهرباء انقطعت، لكن الشمس أضاءت البيوت، الأسعار ارتفعت، لكن التصنيع المحلي نهض، ليستعيد اليمنيون زمام المبادرة.
ومن بين النماذج الميدانية التي تجسد جوهر هذه الثورة، تبرز تجربة جمعية الخبت التعاونية الزراعية، التي تحوّلت من كيان تعاوني تقليدي إلى منصة إنتاجية وتنموية متكاملة.
الجمعية لم تكتف بمهام الإقراض وتوزيع المدخلات، بل دخلت ميدان الزراعة التعاقدية، واستصلاح الأراضي، وتسويق المنتجات، وتطوير سلاسل القيمة الزراعية. أنشأت وحدات إنتاجية لتربية الدواجن، وتصنيع العسل، وتحسين الصحة الحيوانية. دعمت الشباب بالتدريب، وأدخلت الطاقة الشمسية للمزارع، لتصبح نموذجاً حياً للمجتمع المنتج، الشريك في التنمية.
هذه التجربة التي تقودها الجمعية، ليست سوى انعكاس لجوهر ثورة 21 سبتمبر: أن يكون المجتمع فاعلاً لا تابعاً، وأن تُبنى الدولة من القاعدة إلى القمة، لا العكس.
إن ثورة 21 سبتمبر لم تكن مجرد لحظة احتجاج، بل لحظة وعي، ثورة لم ترفع السلاح فقط، بل رفعت معول الزراعة، ومطرقة البناء، وقلم التعليم. إنها ثورة حياة، تثبت كل يوم أن التنمية ليست منحة من الخارج، بل فعل داخلي نابع من إيمان الشعب بحقه في السيادة والكرامة.
ولأن البناء لا يتم دفعة واحدة، فإن ما تحقق إلى اليوم ليس سوى بداية الطريق، أما بقية الطريق، فتتطلب المزيد من المبادرات، والمزيد من التلاحم بين الدولة والمجتمع، وبين المؤسسات والمواطنين.
في الجزء الثاني من هذا المقال، سنواصل تسليط الضوء على نماذج أخرى من النجاح التعاوني، ومشاريع التنمية الريفية، التي تشكّل امتداداً فعلياً لروح 21 سبتمبر، وتُظهر أن الثورة مستمرة، لا في الخنادق وحدها، بل في الحقول، والمعامل، والعقول.
رئيس جمعية الخبت التعاونية الزراعية