
دموع البن.. حين تكتب الروح قبل القلم
الإعلام التعاوني الزراعي – محمد صالح حاتم:
حين أمسك بقلمي لأكتب عن البن اليمني، أشعر أنني لا أكتب، بل أنزف دماً، لا أسطّر كلمات، بل أبعثر روحي على الورق. كل حرف أخطه ليس مجرد حبر، بل هو نبض يتدفق من قلبي مباشرة، وكأنني أحيي تاريخا لم يمت، وأعيد إلى الحياة مجدا سُلب، وأبكي وطنا اختُصر في شجرة، لكنها ليست شجرة عادية، إنها شجرة البن.. شجرة اليمن.. شجرة الهوية والانتماء.
لقد كتبت كثيرا عن الزراعة، عن القمح الذي يطعم البطون الجائعة، وعن الذرة التي تعطي الحياة، وعن الفواكه والخضروات التي تزين الموائد، وتمدنا بالعناصر الغذائية لكن حين أكتب عن البن، أشعر وكأنني أكتب عن نفسي، عن أجدادي الذين كانوا يقطفون حباته كمن يقطف نجوم السماء، أشعر أنني أسمع صوت المزارعين الذين غرسوا هذه الشجرة منذ مئات السنين، أسمع دعواتهم وهم يسقونها بماء عرقهم، أرى تجاعيد وجوههم وقد حفرها الزمن، لكنها تشع بالرضا وهم يجمعون حبات البن كما يجمعون أكفهم المتعبة ، أكتب عن ذلك الفلاح الذي يحدّق بشجرته وكأنها ابنه الذي ربّاه وسقاه عرقه ودمه.
راودتني هذه المشاعر عندما قررت زيارة وديان البن العديني في محافظة إب، حيث كنت متشوقا لرؤية المروج الخضراء الممتدة، والمدرجات التي طالما سمعت عنها كإحدى أروع بقاع اليمن الزراعية. كانت رحلتي إلى وادي الدور، ووادي عنه، ووادي مناح مليئة بالحماس، وكأنني على موعد مع كنزٍ دفين، كنزٍ من الأشجار الوارفة التي تحمل تاريخ اليمن ورائحته في حباتها. كنت أتخيل عبق أزهار البن، وصوت المزارعين المتفانين في العناية بشجرتهم، لكن لم أكن أعلم أن ما ينتظرني هناك ليس سوى صدمة ووجع.
عندما وصلت، كانت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها. لم أجد الحقول المورقة التي حلمت بها، لم أجد مدرجات البن التي كنت أمني النفس برؤيتها في أبهى صورها. بدلاً من ذلك، وقفت أمام أطلال شجرة البن، بقايا حقول تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأراض خالية إلا من بعض الأشجار المتناثرة هنا وهناك. كانت آثار الإهمال والجفاف واضحة، وكأن الزمن قد ألقى بثقله على هذه المزارع، فأحالها إلى ذكريات باهتة لما كانت عليه يوما ما. كانت صدمة موجعة، وكأنني أرى تاريخا يُقتلع أمام عيني، وكأنني أشهد على جريمة صامتة تُرتكب بحق أحد أعظم كنوز اليمن.
في تلك اللحظة، لم تكن الكلمات قادرة على التعبير عن إحساسي، فكانت الدموع هي اللغة الوحيدة التي عبرت عن الخيبة التي شعرت بها. كيف لهذا الإرث الزراعي العظيم أن يندثر بهذه الطريقة؟ كيف تحولت هذه الوديان التي كانت يوما مصدر فخر واعتزاز إلى مساحات خاوية إلا من الحنين؟ كان المشهد مؤلما، لكنه زادني إصرارا على البحث عن الأسباب وراء هذا التراجع، وعن السبل الممكنة لإعادة الحياة إلى شجرة البن التي لطالما ارتبط اسمها بهذه الأرض الطيبة.
حين أدرك أن هذه الشجرة العظيمة تعرضت للنسيان، وأن أرض البن صارت أرضا لشيء آخر، لشيء لم يكن يوما جزءا من هوية اليمن، أشعر وكأنني أختنق، وكأن البن نفسه يبكي معي. أكتب عنه وأجد دموعي تنهمر غصبا عني، كما لو أن روحي تصرخ من أجل شجرة لم تخذلنا يوما لكننا خذلناها.
أي قلب لا ينكسر وهو يرى شجرة البن تُقتلع ليُزرع مكانها ما لا يشبهها؟ أي ضمير لا يئن حين يرى اليمني الذي علّم العالم كيف يشرب القهوة، يبحث عنها اليوم كالغريب؟
إنني حين أكتب عن البن، لا أكتب ككاتب، بل أبكي كطفل فقد شيئا عزيزا عليه، أبكي كمن يرى وطنه يتلاشى أمامه، ولا يملك إلا الكلمات ليقاوم بها النسيان. وكم أخشى أن يأتي يومٌ أكتب فيه عن البن كذكرى، لا كحقيقة نابضة بالحياة.
أيها البن، يا سليل الأرض، يا هوية اليمن، يا مجدا لا يموت، سامحنا، فإننا لم نكن أوفياء كما كنتَ لنا..